فصل: فَوائدُ نَافِعة حَوْلَ الإِفْتَاءِ والاِسْتِفْتَاءِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فَوائدُ نَافِعة حَوْلَ الإِفْتَاءِ والاِسْتِفْتَاءِ:

اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن الفُتْيَا أمرها عظيم، ولقد كان السلف رحمهم الله يأبون الفُتْيَا، وَيُشَدِّدُونَ فيها ويَتَدَافَعُون عكس ما عليه علماء هذا العصر.
فعن عبد الرحمن بن أبي ليلي قَالَ: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسْئَلُ أَحَدُهُم عن المسألة فَيَرُدَّهَا هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول.
وفي رواية ما منهم مَن يُحَدِّث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه، ولا يُسْتَفْتَى عن شيء إلا ود أَنَّ أخاه كفاه الفُتيا. وأنكر الإمام أحمد وغيره على مَن يَهْجمُ على الجواب لِخَبَرِ: أجْرَؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار.
وقَالَ الإمام أحمد: لا ينبغي أن يجيب في كل ما يُسْتَفْتَى فيه، وقَالَ: لا ينبغي للرجل أن يعرض نفسه لِلْفُتْيَا حتى يكون في خمس خصال:
أحدها: أنْ تكون له نية، وهي أن يخلص لله تعالى، ولا يقصد رياسة ولا نحوها، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور.
الثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة، وإلا لم يتمكن من فعل ما تصدى له من بيان الأحكام الشرعية.
الثالثة: أن يكون قويًا على ما هو فيه وعلى معرفته، وإلا فقد عَرَّضَ نَفْسَه لَخَطَرٍ عظيم.
الرابعة: الكفاية، وإلا أبْغَضَهُ الناس، لأنه احتاج إلى الناس وإلى الأخذ مما في أيديهم، فيتضررون منه.
الخامسة: معرفة الناس بأن يكون بصيرًا بمكرهم وخداعهم، ليكون حذرًا منهم لئلا يوقعوه في المكروه.
وإليك ما ورد في ذلك، نقل الميموني عن الإمام أحمد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه سئل عن حديث، فقَالَ سلوا أصحاب الغريب فإني أخاف أن أتكلم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظن فأخطي.
وقَالَ أبو داود الطيالسي: سَمعْتُ شُعْبةَ قَالَ: سألتُ الأصمعي عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه لَيُغَانُ على قلبي»، ما مَعْنَى يُغَان؟
قَالَ: فقَالَ لي هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فَقُلْتُ: نعم. فقَالَ: لو كان عن غير النبي صلى الله عليه وسلم لَفَسَّرْتُ ذلك ولكن عن النبي صلى الله عليه وسلم لا أَجْتَرِئُ عليه.
وعن الأصمعي عن مُعْتَمِرُ بنُ سُليمان عن أبيه قَالَ: كانوا يتقون حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما يتقون تفسير القرآن.
وكان الإمام أحمد يجيء إلى أبي عبيد يسأله في الغريب روى ذلك الخلال.
وقَالَ ابن عباس: إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله وقَالَ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء.
وقَالَ الشعبي: لا أدري نصف العلم.
وقَالَ أحمد في رواية المروذي: كان مالك يسْئَلَ عن الشيء فَيُقَدِّم ويؤخِّر يَتَثَبَّت وهؤلاء يقيسون على قوله ويقولون: قَالَ مالك.
وعن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: من عِلْمِ الرجل أن يقول لما لا يَعْلَم: الله أعْلم، لأن الله عز وجل قَالَ لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}.
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: العلم ثلاثة: كتابٌ ناطِقٌ، وسنة ماضية، ولا أدري.
وقَالَ أحمد في رواية المروذي: ليس كل شيء ينبغي أن يُتَكلم فيه وذكر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسْأل فيقول: «لا أدري حتى أسأل جبريل».
وقَالَ عبد الله: سَمِعْتُ أبي يقول: كان سفيان لا يكاد يفتي في الطلاق ويقول مَنْ يُحْسِنُ ذا من يُحْسِنُ ذا.
وقَالَ في رواية الحارث: وَدِدْتُ أنه لا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ عن مسألة أو ما شيء أشد علي من أن أسأل عن هذه المسائل البلاء يُخْرِجُه الرجلُ عن عُنُقِه ويُقَلِّدك.
وخاصَّة مَسائل الطلاق والفُروج، ونقل الأثرم عنه أنه سأله عن شيء فقلت: كيف هو عندك؟ فقَالَ: وما عندي أنا.
وسَمِعْتُه يقول: إنما هو يعني العِلْمِ ما جاء من فوق. وقَالَ سفيان: من فتنة الرجل إذا كان فقيهًا أن يكون الكلام أحب إليه من السكوت.
وقَالَ المروذي: قُلْتُ لأبي عبد الله: إن الْعَالِمَ يظنون عنده عِلْمُ كل شيء، فقَالَ: قَالَ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إن الذي يُفْتِي الناسَ في كل ما يَسْتَفْتُونَه لمَجْوُن. وأنكر عبد الله على من يَتَهَجَّم في المسائل والجَوابات.
قَالَ: وَسَمِعْتُ أبا عبد الله يقول: لِيَتَّقِ الله عَبْدٌ ولينظر ما يقول وما يتكلم فإنه مسئول.
وقَالَ: من أفتى الناس ليس يَنَبغِي له أن يُحِيلَ الناسَ على مذهبه ويُشَدِّد عليهم.
وقَالَ في رواية القاسم: إنما يَنْبَغِي أن يُؤمر الناسُ بالأمر البين الذي لا شك فيه ولَيْتَ الناس إذا أمِرُوا بالشيء الصحيح أن لا يجاوزوه.
ونقل محمد بن أبي طاهر عنه أنه سئل عن مسألةٍ في الطلاق، فقَالَ: سَلْ غيري ليس لي أن أفتي بالطلاق بشيء.
وقَالَ في رواية ابن منصور: لا ينبغي أن يُجِيبَ في كل ما يُسْتَفْتَى. وصح عن مالك أنه قَالَ: ذِلٌ وَإهَانَةٌ لِلْعَالِمْ أَنْ تجيب كُلَّ مَن سَأَلَكَ.
وقَالَ أيضاً: كلُّ مَن أَخْبَرَ النَّاسَ بكل مَا يَسْمَعُ فهُو مَجْنُون. وقَالَ أحمد: وفي رواية أحمد بن علي الأبار وقَالَ له رجل: حَلَفْتُ بِيَمِين لا أَدْرِي إيش هي. قَالَ: لَيْتَ أنك إذا دَرَيْتَ دَرَيْتَ أَنَا.
وقَالَ في رواية الأثرم: إذا هاب الرجل شيئًا فلا ينبغي أن يحمل على أن يقول.
وقَالَ في رواية المروذي: إن الذي يُفْتِي الناسَ يَتَقَلَّدُ أَمْرًا عَظِيمًا، وقَالَ يُقْدِمْ على أمرٍ عظيم يَنْبَغِي لِمَنْ أَفْتَى أَنْ يَكُون عالمًا بقول مَن تقدم وإلا فلا يُفْتِي.
وقَالَ في رواية الميموني: من تكلم في شيء ليس له فيه إمام أخاف عليه الخطأ.
وقَالَ الثوري: لا نزال نتعلم ما وجدنا من يعلمنا. وقَالَ أحمد: نحن الساعة نتعلم، وسأله إسحاق بن إبراهيم عن الحديث الذي جاء: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار» ما معناه.
قَالَ أبو عبد الله: يُفتي بما لم يسمع. وقَالَ محمد بن أبي حرب: سمعت أبا عبد الله، وسُئِلَ عنَ الرجل يفتي بغير علم، قَالَ: يروى عن أبي موسى قَالَ: يمرق من دينه.
ونقل المروزي: أن رجلاً تكلم بكلام أنكره عليه أبو عبد الله قَالَ: هذا من حبه الدنيا يُسْئَلُ عن الشيء الذي لا يحسن فيحمل نفسه على الجواب.
ونحو هذا عن حماد، وقَالَ: كنت أسائل إبراهيم عن الشيء فيعرف في وجهي أني لم أفهم فيعيده حتى أفهم روَى ذلك الخلال وغيره.
اللَّهُمَّ نَجِّنَا برحمتك من النار وعافِنا من أُرِ الْخِزْي والبَوَارِ وأدْخِلنا بِفَضْلِكَ الْجَنَةَ دارَ القرارِ وعامِلْنَا بكَرَمِكَ وَجُودِكَ يا كريمُ يا غَفارُ، وَاغْفِرْ لنا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى الله على مُحمَّدٍ وعلى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ:
قَالَ ابن وهب عن يونس عن الزهري: أن أبا بكر الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حدث رجلاً بحديث فَاستَفْهَمَهُ الرجل فقَالَ الصديق هو: كما حدثتك، أيُّ أرض تقلني إذا قلت بما لا أعلم.
وروى نحوه من غير وجه عن أبي هريرة مرفوعًا: من أَفْتَى بفتيا غَير ثِبْتٍ فيها فإنما إثمه على الذي أفتاه. وفي لفظ: من أفتى بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه. رواهما أحمد. وروى الثاني أبو داود، والأول ابن ماجة. وهو حديث جيد له طرق مذكورة في حواشي المنتقى.
وقَالَ الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قَالَ: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون، وقَالَ مالك: عن يحيى بن سعيد عن ابن عباس مثله.
وقَالَ الزهري عن خالد بن أسلم قَالَ: كنا مع ابن عمر فسأله أعرابي أَتَرِثُ العمة؟ فقَالَ: لا أدري، قَالَ: أنت لا تدري، قَالَ: نعم اذهب إلى العلماء فاسألهم، فلما أدبر الرجل قَبَّلَ ابن عمر يده فقَالَ: نِعْمَ ما قَالَ أبو عبد الرحمن سئل عما لا يدري فقَالَ: لا أدري.
وقَالَ سفيان بن عيينة والثوري عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قَالَ: أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ الأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ إلا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ إيَّاهُ.
ولا يُسْتَفْتَى عن شيء إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتوى. هذا لفظ رواية الثوري، ولفظ ابن عيينة: إذا سئل أحدهم عن المسألة ردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول.
وقَالَ أبو حصين وعثمان بن عاصم التابعي: إن أحدكم يُفتى في المسألة ولو وَرَدَتْ على عمر لجمع لها أَهْلَ بَدْرٍ.
وقَالَ القاسم، وابن سيرين: لأن يَمُوتَ الرجل جاهلاً خير له مِن أن يقول ما لا يعلم، وقَالَ مالك عن القاسم بن محمد: إنَّ مِن إكرام المرء لنفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به علمه.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَيْلٌ لِمَنْ يَقُولُ لِمَا لا يَعْلَمُ: إنِّي أَعْلَمُ. وَقَالَ مَالِكٌ: مِنْ فِقْهِ الْعَالِمِ أَنْ يَقُولَ: لا أَعْلَمُ فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يُهَيَّأَ لَهُ الْخَيْرُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنهما سَمِعْتُ مَالِكًا سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَجْلانَ يَقُولُ: إذَا تَرَكَ الْعَالِمُ لا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ. وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بنُ رَاهْوَيه عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ دَاوُد بنْ أَبِي الزُّبَيْر الزُّبَيْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَجْلانَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَذَكَرَهُ وَقَدْ سَبَقَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّ فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْئًا فَأَجِبْنِي.
فَقَالَ: إنْ يَكُنْ فِي نَفْسِك مِنْهَا مِثْلُ أَبِي قُبَيْسٍ أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ فِي نَفَسِي مِنْهَا مِثْلُ الشَّعْرَةِ.
وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: سَأَلَ رَجُلٌ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَطَالَ تَرْدَادُهُ إلَيْهِ فِيهَا وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ يَا هَذَا إنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ إلا فِيمَا أَحْتَسِبُ فِيهِ الْخَيْرَ وَلَسْتُ أُحْسِنُ مَسْأَلَتَكَ هَذِهِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: الْعَجَلَةُ فِي الْفَتْوَى نَوْعٌ مِنْ الْجَهْلِ وَالْخُرْقِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لا يَكَادُ يُفْتِي فُتْيَا وَلا يَقُولُ شَيْئًا إلا قَالَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْنِي وَسَلِّمْ مِنِّي. ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ.
ولاسيما إنْ كَانَ مَنْ يُفْتِي يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلْفَتْوَى لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ وَلا يَعْلَمُ النَّاسَ ذَلِكَ مِنْهُ.
فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إفْتَاءُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِلا إشْكَالٍ فَهُوَ يُسَارِعُ إلَى مَا يَحْرُمُ لاسيما إنْ كَانَ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ عَرَضَ الدُّنْيَا.
وَأَمَّا السَّلَفُ فَكَانُوا يَتْرُكُونَ ذَلِكَ خَوْفًا وَلَعَلَّ غَيْرَهُ يَكْفِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ أَدْنَى لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: الَّذِي يُحَدِّثُ بِالْبَلْدَةِ وَبِهَا مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحَدِيثِ فَهُوَ أَحْمَقُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: مَا أَفْتَيْتُ حَتَّى شَهِدَ لِي سَبْعُونَ أَنِّي أَهْلٌ لِذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَسَحْنُونٌ أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا. وقَالَ سَحْنُونٌ: أَشْقَى النَّاسِ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ.
وَقَالَ: فِتْنَةُ الْجَوَابِ بِالصَّوَابِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ: أَدْرَكْتُ الْفُقَهَاءَ وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يُجِيبُوا فِي الْمَسَائِلِ وَالْفُتْيَا حَتَّى لا يَجِدُوا بُدًّا مِنْ أَنْ يُفْتُوا. وَقَالَ: أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْفُتْيَا أَسْكَتُهُمْ عَنْهَا وَأَجْهَلُهُمْ بِهَا أَنْطَقُهُمْ فِيهَا.
وَبَكَى رَبِيعَةُ فَقِيلَ مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: اُسْتُفْتِيَ مَنْ لا عِلْمَ لَهُ. وَقَالَ: وَلَبَعْضُ مَنْ يُفْتِي هَا هُنَا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ مِنْ السُّرَّاقِ.
وقَالَ بعضُ العلماءِ لِبَعْض المفِتين: إذا سُئِلْتَ عن مسألة فلا يكن هَمُّكَ تَخْلِيصَ السَّائلَ، ولكن ليكُنْ هُمُّكَ تخليصَ نفسِكَ.
وقَالَ عمرو بن دينار لما جلس قتادة للفتيا: تدري في أي عمل وقعت؟ وقعت يا قتادة بين الله وبين خلقه، وقلت: هذا يصلح، وهذا لا يصلح.
وقَالَ بعضهم: إن العالم داخل بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم.
وكان ابن سيرين إذا سئل عن الشيء من الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان.
وكان النخعي يسأل فتظهر عليه الكراهة ويقول: ما وجدت أحدًا تسأله غيري.
وقَالَ آخر: إذا سئلت عن مسألة فتفكر فإن وجدت لنفسك مخرجًا فتكلم وإلا فاسكت.
وعن مالك: أنه كان إذا سئل عن المسألة كأنه واقف بين الجنة والنار.
وقَالَ النخعي: قد تكلمتُ ولو وجدت بدًا ما تكلمت وإن زمانًا أكون فيه فقيه أهل الكوفة لزمان سوء.
وقَالَ ابن عيينة: ليس هذا الأمر لمن ود أن الناس احتاجوا إليه إنما هذا الأمر لمن ود أنه وجد من يكفيه.
وسئل عمر بن عبد العزيز عن مسألة فقَالَ: ما أنا على الفتيا بِجَري.
اللَّهُمَّ أحْينا في الدنيا مؤمنينَ طائعينَ وتوفَّنا مسلمينَ تائبينَ، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ:
ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُريرةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاس قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرْدِ الله بِهِ خَيْرًا يُفِقِّهْهُ في الدِّين».
رُوِيَ عن مجاهد أنه قَالَ: الفقيهُ مَن يَخَافُ الله عَزَّ وَجَلَّ.
وُروِيَ عَنْ عَلَيَّ بِنْ أَبِي طَالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قَالَ: ألا أخبركم بالفقيه مَن لم يُقَنِّطِ النَّاسِ مِنْ رَحمةِ اللهِ، ولم يُؤَمِنْهُمْ مِنْ مَكْرِ الله، وَلَمْ يُرَخَّصْ لهم في مَعَاصِي الله، وَلَمْ يَدَعِ القرآن رَغْبَةً إلى غيره.
وقَالَ ابنُ مسعود: كفى بخشيةِ الله عِلْمًا، وكَفَى بالاغْتِرارِ به جَهْلاً.
وَرُويَ عن عُمَرَ أنه كَتَبَ إِلى أبي موسى الأشعري: إِنَّ الْفِقْهَ لَيْسَ بكثرة السَّرْدِ، وَسَعَةِ الهذَر، وكثرة الرواية، وإنما الفقْهُ خَشْيَة اللهِ عز وجل.
وقَالَ أَحَد العُلَماء: إن كَمَالَ علم العالم ثلاثة: تركُ طلب الدنيا بِعِلْمِهِ، ومحبَّتُه الانتفاع لمن يَجْلِسُ إليه، ورأفتُه بالناس.
وَرُوِيَ عن مَطَر الوَرَّاقِ قَالَ: سألتُ الحسنَ عن مسألة فقَالَ فيها، فَقُلْتُ: يا أبا سَعِيد: يأبْىَ عليكَ الفُقَهاء. فقَالَ الحسنُ: ثَكِلتْكَ أمُّكَ يَا مَطَر، الفقيهُ الوَرعُ الزاهدُ المقيمُ عَلَى سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يَسْخَر بِمَنْ أَسْفَل منه، ولا يَهْزَأ بِمَنْ فوَقَهُ، ولا يأخذ على علْمٍ عَلَّمَهُ الله إيَّاهُ حُطَامًا.
عن الحسن قَالَ: الفقيهُ المُجْتَهدُ في العبادة: الزاهدُ في الدنيا المقيمُ على سنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنه قَالَ: الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصيرُ في دِينِهِ المجتهدُ في العبادة. وعن وهب بن منبه قَالَ: الفقيهُ العفيفُ المتمسكُ بالسنة أولئك أتباعُ الأنبياء.
وقَالَ سُفيانُ الثوري: الفقيهُ يَعُدُّ البلاءَ نِعْمَةٍ والرَّخَاءَ مُصِيبَةٍ وَأفقَهُ منه مَن لم يَجْتَرِئْ على الله عز وجل في شيء لِعِلَّةٍ بِهِ.
وقَالَ غيره: إن الفقيهَ كُلَّ الفَقِيهَ من فَقُهَ في القرآن وَعَرَفَ مَكْيَدَة الشيطان.
وقَالَ الفضيلُ بنُ عياضٍ: إنما الفقيهُ الذي أنطَقَتْهُ الخَشْيَةُ، وأسْكَنَتْهُ الخَشْيَةُ، إِنْ قَال قَالَ بالكتاب، وإن سَكَتَ سَكَت بالكتاب، وإن اشْتَبَهَ عليه شيءٌ وَقَفَ عنده وَرَدَّهُ إلى عَالمِهِ.
وَعَنْ الْحَسَنْ قَالَ: إنا لنُجَالِسُ الرَّجُلَ فَنَرى إن به عِيًّا وما بِهِ عِيٌ وإنَّه لَفَقِيْهٌ مُسْلِمٌ. قَالَ: وكيعُ أسْكَتَتْهُ الْخَشْيَةُ.
وقَالَ الشَّعْبِي: لَسْنَا بِعُلَمَاءٍ وَلا فُقَهَاء وَلَكِنَّنَا قَوْمٌ قَدْ سَمِعْنَا حَدِيثًا فَنَحْنُ نُحَدِّثكم بما سَمِعْنَا إِنَّمَا الفقيه مَن وَرِعَ عَن مَحَارِم اللهِ والعَالِمُ مَنْ خَافَ اللهَ عز وجل.
واسْتَفْتَى رَجلٌ الشَّعْبِي فقَالَ: أيها العالِمُ أَفْتِنِي فقَالَ: إِنما العَالِم مَن يَخافُ الله.
وَعَنْ جَابِرْ: أَنَّهُ تَلا قَوَلَ الله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}.
فقَالَ: العَالِمُ الذي عَقَلَ عَنْ اللهِ أَمْرَهُ فَعَمِلَ بِطاعَةِ اللهِ واجْتَنَبَ سَخَطَهُ.
وسئل عبدُ الله بنُ المُبارَكِ هَلْ لِلْعُلَماءِ عَلامةٌ يُعْرَفُونَ بِهَا؟ قَالَ: علامةُُ العَالِم مَن عَمِلَ بِعِلْمِهِ وَاسْتَقَلَّ كَثِيرَ الْعِلْمِ وَالْعَمَل مِن نَفْسِهِ.
وَرَغِبَ فِي عِلْمِ غَيْرِهِ وَقَبِلَ الحَقَّ مِن كلِ مَنْ أَتاهُ بِهِ وَأَخَذَ الْعِلْمِ حَيْثُ وَجَدَهُ فَهَذِهِ عَلامَةَ العَالِم وَصِفَتهُ.
قَالَ المروَذِي: فذكرتُ ذلك لأبي عَبدِ اللهِ فقَالَ: هَكذا هُو.
قِيلَ لابن الْمُبَارَكِ كَيْفَ يُعْرفُ العالمِ الصَّادِقُ؟ فقَالَ: الذي يَزْهدُ في الدنيا وَيَعْقِلُ أَمْرَ آخِرَتِهِ.
وقَالَ الزهري: لا نَثِقُ لِلنَّاس بِعَمَلِ عَامِلٍ لا يَعْلم، وَلا نَرْضَى لَهم بعلْمٍ عَالمٍ لا يَعْمَل.
وقَالَ الحسن كان الرجل إذا طَلَبَ بَابًا مِن العلمِ لم يَلْبِثْ أن يرى أثر ذلك في تَخَشُّعِهِ وَبَصَرِه ولِسَانِهِ ويَدِه وزُهْدِهِ وَصَلاتِهِ وَبَدَنِهِ وَإِنْ كان الرجل لَيَطْلُب البابَ مِن العلم فَلَهُو خَيْرٌ لَهُ مَن الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.
ورُوِيَ عن أحَدِ العلماء أنه قَالَ: أدركتُ الفُقَهَاءَ بالمدينة يَقُولُونَ: لا يَجُوزُ أن يَنَصَب نَفْسَهُ لِلْفَتْوَى ولا يَجُوزُ أن نسْتَفْتِي إلا الموثوق في عَفافِهِ وعَقلِهِ وَصَلاحِهِ وَدِينِهِ وَوَرَعِهِ وَفَقِهْهِ وحِلْمِهِ ورِفِقِهِ وِعِلْمِهِ بأحْكَام القرآنِ والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ.
عالمًا بالسنة والآثار وبمن نقلها والمعمول به منها والمتروك.
عالمًا بوجوه الفقه التي فيها الأحكام عالمًا باختلاف الصحابة والتابعين.
فإنه لا يَسْتَقِيم أَنْ يكُونَ صَاحِبَ رَأيَ له علم بالكتاب والسنة والأحاديث والاختلاف ولا صاحب حديث ليس له علم بالفقه والاختلاف ووجوه الكلام فيه، وليس يَسْتَقِيم واحدٌ منهما إلا بصاحِبه ومَن كان مِن أهل العلمِ والفقهِ والصلاحِ بِهَذِهِ المنزلةِ إلا أنَّ طُعْمَتَهُ مِن الناسِ وحَاجَاتَهُ مُنْزَلةٌ بهم وهو محمولٌ عليهم فليسَ بموضِعِ الفَتْوَى ولا مَوْثُوق في فَتْوَاهُ ولا مأمُونٌ على الناس فيما اشْتَبَهَ عليهم.
نختم هذا الكلام بما قَالَه شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: فعَلى كل مُؤْمِنٍ أن لا يَتَكَلَّمَ في شيءٍ مِن الدينِ إلا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرسولُ صلى الله عليه وسلم ولا يَتَقَدَّمَ بينَ يَدَيهِ بلِ يَنظر مَا قَالَ فيكونُ قوله تَبَعًا لِقَوْلِهِ وَعَمَلُه تَبَعًا لأَمْرِهِ فَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ ومنَ سَلَكَ سَبِيلَهُم مِن التابِعِينَ لَهُم بإِحسانٍ وأَئِمَةِ المسلمين رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين.
العِلْمُ قَالَ الله وقَالَ رَسُولُهُ ** قَالَ الصَّحابَةُ هُمْ أُولُوا الْعِرْفَان

اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن الشَّكِ بَعْدَ اليَقِينِ، وَمِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ومِن شَدَائِدِ يَوْم الدِّين، وَنَسْأَلَكَ رِضَاكَ وَالْجَنَّةِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ والنَّارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا إِذَا عَرِقُ الْجَبِينُ وَاشْتَدَّ الْكَرْبُ وَالأَنِينُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى الله على مُحمَّدٍ وعلى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
دَعِ التَّشَاغُلَ بِالْغِزْلانِ والْغَزَلِ ** يَكْفِيكَ مَا ضَاعَ مِنْ أَيَّامِكَ الأُوَلِ

ضَيَّعْتَ عُمْرَكَ لا دُنْيَا ظَفَرْتَ بِهَا ** وَكُنْتَ عَنْ صَالِحِ الأَعْمَال في شُغُلِ

تَرَكْتَ طُرْقَ الهُدَى كَالشمس ِواضِحَةٍ ** وَمِلْتَ عنها لمُعْوَجِّ مِنَ السُّبُلِ

وَلَمْ تَكُنْ نَاظِرًا في أْمِر عَاقِبَةٍ ** أأَنْتَ فِي غَفْلَةٍ أَمْ أَنْتِ في خَبَلِ

يَا عَاجِزًا يَتَمَادَى فِي مُتَابَعَةِ النَّـ ** نَفْسِ اللجُوجِ وَيَرْجُو أَكْرَم النُّزلِ

هَلا تَشَبَّهْتَ بالأَكْيَاسِ إِذْ فَطِنُوا ** فَقَدَّمُوا خَيْرَ مَا يُرْجَى مِنَ الْعَمَلِ

فَرَّطْتَ يَا صَاحِ فَاسْتَدْرِكْ عَلَى عَجَلٍ ** إِنَّ المنَيَّةَ لا تَأتي على مَهَلِ

هَلْ أَنْذَرَتْكَ يَقِينًا وَقْتَ زَوْرَتِها ** أَوْ بَشَّرَتْكَ بِعُمْرٍ غَيْرِ مُنْفَصِلِ

هَيْهَاتَ هَيْهاتَ مَا الدُّنْيَا بِبَاقِيَةٍ ** وَلا الزَّمَانُ بِمَا أَمَّلْتَ فيه مَلَي

لا تَحْسَبَنَّ اللَّيَالي سَالمَتَ أحَدًا ** صَفْوًا فَمَا سَاَلمَتْ أَلا عَلى دَخَلِ

وَلا يَغُرَّنْكَ مَا أَوْلَيْتَ مِنْ نِعَمٍ ** فَهَلْ رَأيْتَ نَعِيمًا غَيْرَ مُنْتَقِلِ

كَمْ مِنْ فَتىً جَبَرَتْهُ بَعْدَ كَسْرَتِهِ ** فَقَابَلَتْهُ بِجُرْحٍ غَيْرِ مُنْدَمِلِ

إلامَ تَرْفُلُ في ثَوْبِ الغُرُورِ عَلَى ** بِسَاطِ لَهْوَكَ بَيْنَ التِّيهِ وَالجَذَلِ

وَالشَّيبُ وَافَاكَ مِنْهُ نَاصِحٌ حَذِرٌ ** فَمَا بِهِ كُنْتَ إِلا غَيْرَ مُهْتَبِلِ

وَلَمْ تُرَعْ مِنْهُ بَلْ أَصْبَحَتَ تَنْشُدُهُ ** إِنِّي اَتَّهَمْتُ نَصِيحَ الشَّيْبِ في عَذَلِ

وَسِرْتَ تَطْلُبُ حَظَّ النَّفْسِ مِنْ سَفَهٍ ** فَبَهْجَةُ العُمْرِ قَدْ وَلَّتْ وَلَمْ تَصِلِ

وَمَالَ عَصْر التَّصَابِي مِنْكَ مُرْتَحِلاً ** وَحَالةٌ عَنْ طَرِيقِ الغَيِّ لَمْ تَحُلِ

أَقْسَمْتُ بالله لَوْ أَنْصَفْتَ نَفْسَكَ مَا ** تَرَكْتَهَا باكْتِسَابَ الوزْرِ فِي ثِقَلِ

أَمَا عَلِمْتَ بَأنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ ** عَلَى الضَّمَائِرِ والأَسْرَارِ وَالحِيَل

وكُلُّ خَيْرٍ وَشَرٍّ أَنْتَ فَاعِلُهُ ** يُحْصى ولو كُنْتَ في الأسْتَارِ والكِلَلِ

أَمَا اعْتَبَرْتَ بتَرْدَادِ المَنُونِ إلى ** هِذِى الخليقَةِ في سَهْلٍ وَفِي جَبَلِ

وَسَوْفَ تَأتي بلا شَكٍّ إِليكَ فَما ** أَخِّرْتَ عَمَّنْ مَضَى إلا إلى أجَلِ

لكِنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَدَيْكَ فَخُذْ ** بالحزْم وانْهَضْ بَعَزْمٍ مِنْك مُكْتَمَلِ

دَعَ البطَالَةَ والتَّفْرِيطَ وَابْكِ عَلَى ** شَرْخِ الشَّبَابِ الذي وَلَّى وَلمْ يَطُلِ

وَلَمْ تُحَصَّلْ بِهِ عِلْمًا وَلا عَمَلاً ** يُنْجِيكَ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الحادثِ الجللِ

وَابْخَل بِدِينِكَ لا تَبْغِي بِهِ عَوَضًا ** وَلَوْ تَعَاظَمَ وَاحْذَرْ بِيْعَةِ السَّفَلِ

وَاتْلُ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهُ مُنْتَهِيًا ** عَمَّا نَهَى وَتَدبَّرْهُ بِلا مَلَلِ

وَكُلُّ مَا فِيهِ مِنْ أَمْرٍ عَلَيْكَ بِهِ ** فَهُوَ النَّجَّاةُ لِتَالِيهِ مِنْ الظُلَلِ

وَلازِمِ السُّنَّةَ الغَرَّاءَ تَحْظَ بِهَا ** وَعَدِّ عَنْ طُرُقِ الأَهْوَاءِ وَاعْتَزِلِ

وَجَانِبِ الْخَوْضَ فِيمَا لَسْتَ تَعْلَمُهُ ** واحْفَظْ لِسَانَكَ وَاحْذَرْ فِتْنَةَ الجَدَلِ

وَكُنْ حَرِيصًا عَلَى كَسْبِ الحَلال وَلَوْ ** حَمَّلْتَ نَفْسَكَ فِيهِ غَيْرَ مُحْتَمَلِ

وَاقْنَعْ تَجدْ غُنْيَةً عَنْ كُلِّ مَسْأَلَةٍ ** فَفِي القَنَاعَةِ عَزٌّ غَيْرُ مُرْتَحِلِ

وَاطْلُبْ مِنْ اللهِ وَاتْرُكْ مَنْ سِوَاهُ تَجِدْ ** مَا تَبْتَغِيهِ بِلا مَنٍّ ولا بَدَلِ

وَلا تُدَاهِنْ فَتَى مِنْ أَجْلِ نِعْمَتِهِ ** يَوْمًا وَلَوْ نِلْتَ مِنْهُ غَايَةَ الأَمَلِ

وَاعْمَلْ بعَِلْمِكَ لا تَهْجُرْهُ تَشْقَ بِهِ ** وَانْشُرهُ تَسْعَدْ بِذْكِر غَيْرِ مُنْخَذِلِ

وَمَنْ أَتَى لَكَ ذَنْبًا فَاعْفُ عَنْهُ ولا ** تَحْقِدْ عَلَيْهِ وَفِي عُتْبَاهُ لا تطُلِ

عَسَاكَ بَالْعَفْوِ أَنْ تُجْزَى إِذَا نُشِرَتْ ** صَحَائِفٌ لَكَ مِنْهَا صِرْتَ فِي خَجَلِ

وَلا تَكُنْ مُضْمِرًا مَا لَسْتَ تُظْهرُهُ ** فَذَاكَ يَقْبَحُ بَيْنَ النَّاسِ بَالرَّجُلِ

وَلا تَكُنْ آيِسًا وارْجُ الكَرِيمَ لِمَا ** أَسْلَفْتَ مِنْ زَلَّةٍ لَكِنْ على وَجَلِ

وَقِفْ عَلَى بَابِهِ المَفْتُوحِ مُنْكَسِرًا ** تَجْزِمْ بَتَسْكِينَ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ عِلَلِ

وَارْفَعْ لَهُ قَصَّةَ الشَّكوَى وَسَلْهُ إِذَا ** جَنَّ الظَّلامُ بِقَلْبً غَيْرَ مُشْتَغِلِ

وَلازِمْ البَابَ وَاصْبِرْ لا تَكُنْ عَجِلاً ** وَاخْضَعْ لَهُ وَتَذَلَّلْ وَادْعُ وابْتَهِل

ونَادِ يَا مَالِكِي قَدْ جِئْتُ مُعْتَذِرًا ** عَسَاكَ بَالْعَفْوِ والغُفْرَانِ تَسْمَحُ لِي

فَإنَّني عَبْدُ سُوءٍ قَدْ جَنَى سَفَهًا ** وَضَيَّعَ العُمْرَ بَيْنَ النَّوْمِ والكسَلِ

وَغَرَّهُ الحِلْمُ والإِمْهَالُ مِنْكَ لَهُ ** حَتَّى غَدَا فِي المَعَاصِي غَايَةَ المُثْلِ

وَلَيْسَ لِي غَيْرُ حُسْنِ الظَّنْ فِيكَ فَإِنْ ** رَدَدْتِني فَشَقَاءٌ كَانَ في الأزَلِ

حَاشَاكَ مِنْ رَدِّ مِثْلِي خَائِبًا جَزَعًا ** وَالعَفْوُ أَوْسَعُ يَا مَوْلاي مِنْ زَلَلِي

وَلَمْ أَكُنْ بِكَ يَوْمًا مُشْرِكًا وَإِلى ** دِينٍ سَوَى دِينِكَ الإِسْلامِ لَمْ أَمِلِ

وَكَانَ ذَلِكَ فَضْلاً مِنْكَ جُدْتَ بِهِ ** وَلَيْسَ ذَاكَ بسَعْيٍ كَانَ مِنْ قَبَلِي

اللَّهُمَّ ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَهَبْ لَنَا تَقواك واهدِنا بِهُدَاك ولا تكِلنَا إلى أحدٍ سِوَاكْ وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ همٍّ فَرَجَا، وَمِنْ كُلِّ ضَيْقٍ مَخْرَجَا، اللَّهُمَّ أعْذَنا بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، واحْفَظْ جَوَارِحَنَا مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِكَ، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ:
ومما قَالَهُ العُلماءُ والأُدَباءُ والْحُكماءُ في فَضْلِ العِلمِ والْحَثِّ عَليهِ تَعْلُّمًا وَتَعْلِيمًا قَالَ عَلَيُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: النَّاسُ أَبْنَاءُ ما يُحْسِنُونَ. وقَالَ مُصْعَبُ بنُ الزُّبَيْر: تَعَلَّمْ العِلْمَ فَإِنْ لَمْ يكُنْ لَكَ جَمَالٌ كان العلمُ لك جَمالاً، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ مَالٌ كَانَ لك مَالاً. وقَالَ عَبْدِ الملكِ بنُ مَروانَ لِبَنِيهِ: يا بَنِيَّ تعلَّموا العلمَ فَإنْ كُنْتمْ سادةً فُقْتُمْ وإنْ كُنتمْ وَسَطًا سُدْتُمْ، وإنْ كنتُمْ سُوقَةً عِشْتُمْ.
وقَالَ بعضُ الحكماءِ: العلمُ شَرَفٌ لا قَدْرَ لَهُ والأَدَبُ مَالٌ لا خَوْفَ عليهِ. وقَالَ بعضُ الأُدَباءِ: العلمُ أفضَلُ خَلَفٍ والعملُ بِهِ أَملُ شَرَفٍ. وقَالَ بعض البُلَغاءِ: تَعَلَّمْ العلمَ فَإنَّهُ يُقَوِّمُك وَيُسَدِّدُكَ صَغِيرًا وَيُقَدِّمُكَ وَيُسَوّدُكَ كَبِيرًا، وَيُصْلِحُ زَيْفَك وفاسِدَكَ، وَيُرْغِمْ عَدُوَّكَ وحاسِدَكَ، وَيَقُوِّمْ عِوَجَكَ وَمَيْلَكَ، وَيُصَحِّحُ هِمَّتَكَ وَأَمَلَكَ. قلت: وهذا صحيحٌ في حَقِّ العاقلِ اللبيب القابلِ لذلِكَ دُون الأحْمَقِ المُتَكِّبِر الْجَاهِلِ جَهْلاً مُرَكَّبًا قَالَ بَعْضُهُمْ:
كالثَّوْر عَقْلاً وَمِثْلُ التَّيْسِ مَعْرِفةً ** فَلا يفرق بَيْنَ الْحَقُّ والفَنَدِ

الجهل شَخْصٌ يُنَادِي فَوقَ هَامَتِهِ ** لا تَسْأَلْ الرَّبْعِ مَا فِي الرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ

الْعِلْمُ للرَّجُلِ اللَّبِيبُ زِيادَةٌ ** وَنَقِيصَةٌ للأَحْمَقِ الطَيَّاشِ

مَثْلُ النَّهَارِ يزِيدُ أَبْصَارَ الوَرَى ** نُورًا وَيُعْشِي أعْيُنَ الخُفَّاش

ما الفَخْرُ إلا لأَهْلِ الْعِلْمِ إنَّهُمُ ** عَلَى الْهُدَى لِمَنِ اسْتَهْدَى أَدِلاءُ

وَقَدْرُ كلّ امرئٍ مَا كَانَ يُحْسِنُهُ ** وَالْجَاهِلُونَ لأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْدَاءُ

فَفُزْ بعِلمٍ تَعِشْ حَيًّا بِهِ أَبَدَا ** النَّاسُ مَوْتَى وَأَهْلُ الْعِلْمِ أَحْيِاءُ

آخر:
تَعَلَّم فَلَيسَ المَرءُ يولَدُ عالِماً ** وَلَيسَ أَخو عِلمٍ كَمَن هُوَ جاهِلُ

وَإِنَّ كَبيرَ القَومِ لا عِلمَ عِندَهُ ** صَغيرٌ إِذا اِلتَفَّت عَلَيهِ الجَحافِلُ

وَإِنَّ صَغيرَ القَومِ إِن كانَ عالِماً ** كَبيرٌ إِذا رُدَّت إِلَيهِ المَسَائِلُ

آخر:
يَقولُ أَنا الكَبيرُ فَبَجِّلوني ** أَلا هَبِلَتكَ أُمُّكَ مِن كَبيرِ

إِذا كانَ الصَغيرُ أَعَمَّ نَفعاً ** وَأَمضى في الحَوائِجِ وَالأُمورِ

وَأَنفَذَ في النَوائِبِ إِن أَلَمَّت ** فَما فَضلُ الكَبيرِ عَلى الصَغير

وقَالَ بَعْضُهُمْ: العالِمُ يَعْرِف الجاهِلَ لأنَّهُ كَان جَاهِلاً بالأولِ، والجاهلُ لا يَعرفُ العالِمَ لأنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا، وَرُبَّمَا ذَمَّ العالِمَ وَعِلْمَهُ. قَالَ بعضُهُمْ:
أَتَانَا أَنْ سَهْلاً ذَمَّ جَهْلاً ** عُلومًا لَيْسَ يَعْرفُهُنَّ سَهْلُ

عُلومًا لَو قَرَاهَا مَا تَلاهَا ** وَلكنَّ الرِّضَا بالجهلِ سَهْلُ

آخر:
دَعِ الْجَاهِلَ المفتونَ لا تصحَبَنَّهُ ** وَجَانِبه لا يغري بِعقِلِكَ ضَيْرُهُ

فَإِنَّ الذي أمْسَى عَدُوًا لِنَفْسِهِ ** دَلِيلٌ عَلى أَنْ لا يُصَادِقَ غَيرَهُ

وَدَخَلَ على الْخَلِيلِ ابنٌ لَهُ مُتَخَلِّفٌ وَهو يُقَطِّعُ بَيْتَ شِعْرٍ فَخَرَجَ وقَالَ: إِنَّ أَبِي قَدْ جُنَّ. فقَالَ أَبُوهُ:
لَو كُنتَ تَعلَمُ ما أَقولُ عَذَرتَني ** أَو كُنتَ تَفَهَمُ ما أَقولُ عَذَلتُكا

لِكِن جَهِلتَ مَقَالَتي فَعَذَلتَني ** وَعَلِمتُ أَنَّكَ جاهِلٌ فَعَذَرتُكا

وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي ذَمَّ الْجَهْلِ فَهُوَ مَدْحٌ لِلْعِلْمِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، وقَالَ لِرَسُولِهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: {إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، وقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: {أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، وقَالَ جَلَّ وَعَلا لِنَبِيِّهِ: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، وقَالَ تَعَالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالَوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}، وقَالَ تعالى: {وََإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالَوا سَلَاماً}، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعويمر: «كيفَ أنتَ يا عُوَيْمِرُ إذا قِيلَ لك يَوْمَ القِيامَةِ: أَعَلِمْتَ أمْ جَهِلْتَ فَإنَّ قُلْتَ: عَلِمْتُ قِيلَ لك: فَمَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ، وَإِنْ قُلْتَ: جَهِلْتُ قِيلَ لك: فَمَا كَانَ عُذْرُكَ فيما جَهِلْتَ ألا تَعَلَّمْتَ». رَوَاهُ ابنُ عَسَاكِرَ في تَاريخِهِ عَنْ أبي الدَّرْدَاءِ. وَهَذا مِمَّا يَدُلُّ على شَنَاعَةِ الْجَهْلِ وَقُبْحِهِ وَمَهَانَتِهِ وَرَذَالَتِهِ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ خَلْقِه. وقَالَ آخر:
إِنَّ الْجَهْلَ يَحُطُ أَوُلي الْمَرَاتِب ** ويُصَغِرُّ ذَوِي الْمَنَاصِبِ

مَنْ جَادَ بالْعِلْم أَحْيَا العَالَمُونَ لَهُ ** بَدِيعَ حَمْدٍ بِمَدْح الفِعْلِ مُتَّصِلِ

يَمُوتُ قَوْمٌ فَيُحْيي العِلْمُ ذِكْرَهُمُوا ** والْجَهْلُ يُلْحِقُ أَمْوَاتًا بَأمْوَات

آخر:
إِذَا مَا الجهلُ خَيَّمَ في بِلادٍ ** رَأَيْتَ أَسُودَهَا مُسِخَت قُرودَا

آخر:
وَفي الجَهلِ قَبلَ المَوتِ مَوتٌ لأَهلِهِ ** فَأَجسامُهُم قَبلَ القُبورِ قُبورُ

وَإِنَّ اِمرَءاً لَم يُحيى بِالعِلمِ مَيِّتٌ ** فَلَيسَ لَهُ حَتّى النَشورِ نُشورُ

آخر:
معَ العِلْم فَاسْلُكْ حَيْثَ مَا سَلَكَ العِلْمُ ** وَعَنْهُ فَكَاشِفْ كُلَّ مَنْ عِنْدَهُ فِهْمُ

فَفِيهِ جَلاءٌ لِلْقُلوبِ مِنَ العَمَى ** وَعَوْنٌ عَلى الدِّينِ الذي أَمْرُهُ حَتْمُ

فَإِنِّي رَأَيْتُ الْجَهْلَ يُزْرِي بَأهْلِهِ ** وَذو العِلْمِ في الأَقْوَامِ يَرْفَعُهُ العِلْمُ

يُعَدُّ كَبيرَ القَوْمِ وَهُو صغيرُهُمْ ** ويَنْفُذُ منهُ فيهِمُ القولُ والحُكْمُ

وأيُّ رَجاءٍ في امرئٍ شَابَ رَأَسُهُ ** وَأَفْنَى سَنِيهِ وَهُوَ مُسْتَعْجِمٌ فَدْمُ

وأيُّ رَجاءٍ في امرئٍ شَابَ رَأَسُهُ ** وَأَفْنَى سَنِيهِ وَهُوَ مُسْتَعْجِمٌ فَدْمُ

يَرُوحُ وَيَغْدُو الدَّهْرَ صَاحِبُ بَطْنَةٍ ** تَرَكَّبَ في أحْضَانِهَا اللَّحْمُ والشَّحْمُ

إِذَا سُئِلَ الْمِسْكِينُ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ ** بَدَتْ رُخَصَاءُ العيِّ في وَجْهِهِ تَسْمُّو

وَهَلْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ أَقْبَحَ مَنْظَرَا ** مَنْ أُشِيبَ لا عِلْمٌ لَدَيْهِ وَلا حُكْمُ

هِي السَّوْأَةُ السَّوْءَاءُ فَاحْذَرْ شَمَاتِها ** فأوَّلُهَا خِزْيٌ وَآخَرُهَا ذَمُّ

فَخَالِطْ رُوَاةَ العِلمِ واصْحَبْ خِيارَهُمْ ** فَصُحْبَتُهُمْ زَينٌ وَخِلْطَتُهُمْ غُنْمُ

وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ فَإنَّهُمْ ** نُجُومٌ إِذَا مَا غَابَ نَجْمٌ بَدَا نَجْمُ

فَوالله لَوْلا الْعِلْمِ مَاتَّضَح الهُدَى ** وَلا لاحَ مِنْ غَيْبِ الأمُورِ لَنَا رَسْمُ

اللَّهُمَّ يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، ويا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير.
نسألك أن تذيقنا بر عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين، وارأف الرائفين، وأكرم الأكرمين. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ:
قَالَ في مِنْهَاجِ اليَقِين: واعْلَمْ أنَّ كُلَّ العُلومِ شَرِيفَةٌ، وَلِكُلِّ عِلْمٍ مِنْهَا فَضِيلَةٌ، والإحاطةُ بجميعِها مُحَالٌ لِعَجْز عُقُولِ الْبَشرِ عَنْ إحَاطَتِهَا أَوْ لِعَدَمِ تَنَاهِي الأَعْمَار وإحاطَةِ الغيرِ الْمُتَناهِي بالْمُتَناهِي مُحَالٌ وقيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: مَنْ يَعْرِفُ كلَّ العُلوم؟ فقَالَ: كلُّ النَّاسِ.
قُلْتُ: مَا يَعْلَمُ كُلَّ الْعُلومِ إلا الله جَلَّ وَعَلا. قَالَ تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} وَرُوِيَ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قَالَ: «مَنْ ظَنَّ أَنَّ لِلْعِلْمِ غَايَةٍ فَقَدْ بَخَسَهُ حَقَّهُ وَوَضَعَهُ في غَيْر مَنْزِلَتِهِ التِي وَصَفَهُ الله بِهَا حَيْثُ يَقُولُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}». انتهى.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: سَألَ أَهْلُ الكتاب رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن الروحِ فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية. فقَالَوا: تَزْعُمُ أَنَّا لَمْ نَؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ إلا قَلِيلاً وَقَدْ أوُتِينَا التوراةَ وهي الْحِكْمَةُ {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} قَالَ: فنزلت: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} الآية.
قَالَ: مَا أُوتِيتُمْ مِنْ عِلْمٍ فَنَجَّاكُمْ اللهُ بِهِ مِنَ النَّارِ فَهُوَ كَثِيرٌ طَيّبٌ، وَهو في عِلْم اللهِ قليلٌ. وقَالَ بعضُ العُلَمَاءِ: لَوْ كُنَّا نَطْلبُ العِلْمِ لِنبْلُغَ غايَتَهُ كُنَّا قَدْ بَدَأنَا بالنَّقَيصةِ وَلكِننا نَطْلبُهُ لِنُنَقصَ في كلّ يومٍ مِنَ الْجَهْلِ وَنَزْدَادَ في كلَّ يَوْمٍ مِنَ الْعِلْمِ.
الْعِلْمُ نُورٌ فلا تُهْمِلْ مَجَالِسَهُ ** وَاعْمَلْ جَمِيلاً يُرى فالْفضْلُ في الْعَمَلِ

لا تَرْقُدِ اللَّيْلَ ما في النَّوْمَ فائِدةٌ ** لا تَكْسَلَنَّ تَرَى الْحُرْمان في الْكَسَل

آخر:
إِذَا لَمْ تَكُنْ حَافِظًا وَاعِيًا ** فَجَمْعُكَ لِلْكُتْبِ لا يَنْفَعُ

آخر:
وَبَادِرْ بَاللَّيْلِ بَدرِسِ العُلُومِ ** فَإنَّمَا اللَّيلُ نَهَارُ الأَرِيبْ

آخر:
احْفَظْ الْعِلْمَ مَا اسْتَطَعْتَ ** فإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ خَامِلاً رَفَعَكَ

وَاتْرُكِ الْجَهْلَ مَا اسْتَطَعْتَ ** فَإنَّكَ إِنْ كُنْتَ عَالِيًا وَضَعَكَ

آخر:
مَا حَوى العِلْمِ جَمِيعًا أَحُدٌ ** لا وَلَوْ حَاوَلَهُ أَلْفَ سَنَةْ

إِنَّمَا الْعِلْمُ كَبَحْرٍ زَاجِرٍ ** فَاتَّخِذْ مِنْ كُلِّ شيءٍ أَحْسَنَهْ

وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِلى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ العُلُومِ سَبِيلٌ وَجَبَ صَرْفُ الاهتمامِ إلى مَعْرِفَةٍ أَهَمَّهَا والْعنَايَةُ بَأَوْلاها وأفضَلِهَا وأوْلَى الْعُلومِ وَأَفْضَلُهَا علمُ الدِّينِ الْمُبِيِّنِ بالكتابِ والسُّنةِ والْمُسْتَنبَذِ منهُما لأنَّ النَّاسَ بِمعرفَةِ علومِ الشَّرْحِ يَرْشُدُون وَيَهْتَدُونَ، وَبِجَهْلِهِ يَضِلّونَ. ولا تَصِحُّ الْعبادةُ مِمَّنْ لا يَعْرِفُ صِفَتَهَا وَلا شُرُوطَها ولا أرْكَانَهَا والذي يجبُ على المكلَّفِ تعلُّمُهُ من العلوم الدينية كلًّ ما يحتاجُهُ في عِبَادَاتِهِ وَمُعَامَلاتِهِ وَمَا عَدا ذَلِكَ مِنْ العُلومِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ مَا هُو وَسِيلةٌ فَمُسْتَحبٌّ. قَالَ الله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ:
قَالَ بعضُ العُلَمَاءِ الْمُحَققينَ على قولِ اللهِ تعالى: {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} وَلِيَجْعَلُوا غَرَضَهُمْ وَمَرْمَى هِمَّتِهِمْ في التَّفَقُّهِ إنْذَارَ قَومِهِمْ وإرْشَادَهُمْ والنصيحةَ لَهُمْ لا ما يُنْتِجُهُ بَعْضُ الْعُلَماءِ مِنْ الأغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ وَيَؤُمُّونَه مِنَ الْمَقَاصِدِ الرَّكِيكَةِ مِنْ التَّصدُّرِ والتَّرَؤْسِ والتَّبَسُّطِ في البلادِ والتشبُّهِ بالظَلَمَةِ في مَلابِسِهِم وَمَسَاكِنِهمْ وَمَرَاكِبِهِمْ وَعَادَاتِهمْ وَمُنَافَسَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَفُشُوّ دَاءِ الضرائرِ بَيْنَهُمْ وانقلاب حَمالِيقِ أحَدِهِمْ إذا لَمَحَ بِبَصَرِهِ مَدْرَسَةً لآخَر أَو شِرْذِمَةً جَثُوا بَيْنَ يَدِيْهِ وَتَهَالُكُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَوْطَّأَ الْعَقِبِ دُونَ النَّاسِ كُلُّهِمْ فَمَا أبْعَد هَؤُلاءِ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً}.
وَصْن العُلومَ عن المَطَامِعِ كُلِها ** لتَرى بأنّ العِزَّ عِزَّ اليَأسِ

فَالْعِلْمُ ثَوْبٌ والصَّفَاتِ طِرَازهُ ** وَمَطَامِعُ الإِنْسَان كالأدْنَاس

آخر:
وَاِذا طَلَبت العِلمَ فَاِعلَم أَنَّهُ ** حِمْلٌّ ثَقِيلٌ فَانْتَخِبْ مَا تَحْمِلُ

وَإِذا عَلِمتَ بِأَنَّهُ مُتَفاضِلٌ ** فَاِشغَل فُؤادَكَ بِالَّذي هُوَ أَفْضَلُ

آخر:
كَأنَّك لَمْ تَتْعَبْ مِنْ الدَّهْرِ لَيْلَةً ** إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الذي أَنْتَ تَطْلُبُ

اجْعَل العِلْمِ يَا فَتَى لَكَ قَيْدًا ** واتَّقِ اللَه لا تَخُنْهُ رُوَيْدَا

لا تَكُنْ مِثْلَ مَعْشر فُقَها ** جَعَلُوا الْعِلْمَ لِدَّرَاهِمِ صَيْدَا

طَلَبُوهُ فَصَيَّرُوهُ مَعَاشًا ** ثم كادُوا بِهِ الْبَرِيِّةِ كَيْدَا

آخر:
يُقَالُ خِصَالُ الْعِلْمِ أَلْفٌ ** ومَنْ جَمَع الْخِصَالَ الأَلْفَ سَادَا

وَيَجْمَعَهَا الصَّلاحُ فَمْنَ تَعَدَّى ** مَذَاهِبَهُ فَقَدْ جَمَعَ الْفَسَادَا

آخر:
يَقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِبَاضٌ وإنَّما ** رَأَوْا رَجُلاً عنْ مَوْقِفِ الذلِّ أحْجما

وَما زِلْتَ مُنْحَازًا بِعِرْضِي جَانِبًا ** عَن الذَّمِّ أَعْتَدُّ الصِّيَانَةَ مَعْنَمَا

أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهُمْ ** وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسَ أُكْرِمَا

إِذَا قِيلَ هَذَا مَوْردٌ قُلْتُ قَدْ رَأى ** وَلكنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا

أَنَهْنِهُهَا عَنْ بَعْضِ مَا قَدْ يَشِينُهَا ** مَخافةَ أَقْوَالِ العِدا فِيمَ أَوْ لِمَا

فَأُصِبْحُ عن عَيبِ اللئم مُسَلَّمًا ** وَقَدْ رَحْتُ في نَفْسَ الكريم مُعَظَّمَا

فَإنْ قُلْتَ زَنْدَ العِلْمِ كَابَ فَإنَّما ** كَبَا حَيْثُ لَمْ تحْمَى حِمَاهُ وَأَظْلَمَا

وَلَوْ أَنَّ أَهْلُ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ ** وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا

وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانُوا وَدَنَّسُوا ** مُحَيَّاةُ بالأطماعَ حَتَّى تَجَهَّمَا

وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ كُلمَّا ** بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمَا

وَكَمْ طَالبِ رِقّي بنُعْمَاهُ لم يَصِلْ ** إليه وإنْ كَانَ الرَّئِيسَ المُعَظَّمَا

وَكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ كانَتْ على الْحُر نِقْمَةً ** وَكَمْ مَغْنَمٍ يَعْتَدُهُ الْحُرّ مَغْرَمَا

وَلِكن إِذَا مَا اضْطَرني الضُّرُّ لم أبِتْ ** أقَلّبُ فِكْرِي مُنْجدًا ثُمْ مُتْهِمَا

إِلى أَنْ أَرَى مَالا أَغُصُّ بِذِكِرهِ ** إِذَا قُلْتُ قد أَسْدَى إليَّ وَأَنْعَمَا

وَلَمْ أَبْتَذِل في خِدْمَةِ العلم مُهْجَتِي ** لأَخْدِمَ مَنْ لاقِيتُ لَكِنْ لأخْدَمَا

أأشْقَي بِهِ غَرْسًا وأَجْنِيهِ ذِلَّةً ** إِذًا فاتّباعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا

اللَّهُمَّ تَوَفَّنَي مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ:
ثُم اعْلم أَنَّ مَنْ لَمْ يَصُنْ نَفسَهُ بوِقَايِتَهَا عنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمُخِلِّ الْمُرُؤاتِ لَمْ يَنْفَعْهُ عَلمُهُ؛ لأَنَّ الْعِلْمَ للعَملِ فَكَما لا ينفعُ السلاحُ للمجاهِدِ مَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ، ولا الكتُبُ النَّافِعَةُ الْمُستَمَدَّةُ من الكِتَابِ ما لَمْ يُطَالعها وَيَتَعَلَّمْ مِنها، ولا الأطْعمَةُ النَّفِيسَةُ الْمُدَّخَرَةُ لِلْجائِعِ مَا لَمْ يَأْكلْ مِنْهَا، فَكَذَلِكَ الْعِلْمُ. وَقَديمًا قيلَ:
يُحَاوِلُ نَيْلُ الْمَجْدِ والسَّيف مُغْمَدٌ ** وَيَأمَل إِدْرَاكُ العُلَى وَهُوَ نَائِمُ

آخر:
إِذَا كُنْتَ تَهْوَى أَنْ تَعِيشَ بِذِلَّةٍ ** فَلا تَسْتَعِدّنَّ الْحُسَامَ الْيَمَانِيَا

ولا تَسْتَطِيلَنَّ الرِّمَاحَ لِغَارِةٍ ** وَلا تَسْتَجِيدَنَّ الْعِتَاقَ الْمَذَاكِيَا

فصِيانةُ النفسِ أصْلُ الفضائِلِ لأنَّ مَنْ أَهْمَلَ نَفْسَهُ ثِقَةٌ بِما مَنَحَهُ اللهُ مِنْ فَضيلةِ عِلْمِهِ وَتَوَكّلاً على ما يلزَمُ الناسَ مِنْ صِيانَتِهِ سَلَبُوهُ فضيلةَ عِلمِهِ وَوَسَمُوهُ بقبيحِ تَبَذُّلِهِ فلم يَفِ ما أُعْطِي مِنَ العِلْمَ بما سَلَبَهُ منُه التبذّل لأنّ القبيحَ أشْيَعُ منَ الْجَمِيلِ والرذيلةُ مَشْهُورَةٌ تُنقَلُ وتُذَاع بسُرْعَةٍ لِمَا في طِباعِ الناس مِن الحسدِ والبُغْضِ والحِقدِ ونِزاعِ المنافَسَةِ فَتَنْصَرِفُ عُيونُهُمْ عن المحاسِنِ إلى المَسَاوِي فلا يُنْصِفُونَ مُحْسِنًا ولا يجاملون ولا يُسامحونَ مُسيئًا يَذكُرون المَسَاوِي كُلَّها غالِبًا لاسِيَّما إذا كان المَرْموقُ عالمًا فإنّ زَلّتَهُ عِندَهُم لا تُقَالَ وَهَفْوَتَهُ لا تُعْذَرُ لأنَّ العيْبَ الصغيرَ يَعْظُمُ في حَقِّ أَهْلِ المُرْوَآت والعَيْبَ في الجاهلِ المغمورِ مَغْمورٌ ولهذا يَنْبَغِي للعالِمِ أنْ يُحْسِنَ أخلاقَهُ وَخَلُقَهُ لِيُقْتَدَى بِهِ وَيَسْلَمَ عِرضُهُ مِن الطعنِ والاعتراضاتِ.
قَالَ بعض العلماء:
أَيُّهَا الْعَالِمُ إِيَّاكَ إيَّاكَ الزَّلَلْ ** وَاحْذَرْ الْهَفْوَةَ والْخَطْبَ الْجَلَلْ

هَفْوَةُ العَالِم مُسْتَعْظَمَةْ ** إِذْ بِهَا أَصْبَحَ في الْخَلْقِ مَثَلْ

وَعَلَى زَلَّتِهِ عُمْدَتُهُمْ ** فَبِهَا يَحْتَجُّ مَنْ أَخْطَأ وزَلْ

لا تَقُلْ يَسْترْ عَليَّ الْعِلْمُ زَلَّتِي ** بَلْ بِها يَحْصُل في العِلْمَ الخلَلْ

إِنْ تَكُنْ عِنْدَكَ مُسْتَحْقَرَةْ ** فَهِيَ عِنْدَ اللهِ والنَّاسِ جَبَلْ

لَيْسَ مَنْ يَتْبَعُهُ الْعَالمُ في ** كُلِّ مَا دَقَّ مِن الأَمْرِ وَجَلْ

مِثْلُ مَنْ يَدْفعُ عَنْهُ جَهْلُهُ ** إِنْ أَتَى فَاحِشَةً قِيلَ قَدْ جَهِلْ

انْظُرِ الأَنْجُمَ مَهْمَا سَقَطَتْ ** مَنْ رَآهَا وَهِي تَهْوي لَمْ يُبَلْ

فإذا الشمسُ بَدَتْ كَاسِفَةً ** وَجَلَّ الْخَلْقُ لَهَا كُلَّ الوَجَلْ

وَتَرَاءَتْ نَحْوَهَا أَبْصَارُهُمْ ** في انْزعَاجِ واضْطِرَابٍ وَوَجَلْ

وَسَرى النَّقْصُ لَهُمْ مِنْ نَقْصِهَا ** فَغَدَتْ مُظْلِمَةً مِنْهَا السُّبُل

وَكَذَا العَالِمُ في زَلَّتِهْ ** يَفْتِنُ العَالَمَ طَرًا ويُضِلْ

آخر:
أَرَى الْعِلْمَ كالْمِرَآةِ يَصْدَأُ وَجْهُهُ ** وَلَيْسَ سِوى حُسْن الْخَلاق مِنْ جَالِي

وَلَوْ وَازَنَ الْعِلْمَ الْجِبَالَ ولم يَكُنْ ** لَهُ حُسْنُ خُلْقٍ لَمْ يَزِنْ وزْنَ مِثْقَال

وَإِنَّ الْمَسَاوِي زِهْيَ في خُلقِ عَالِمٍ ** لأقْبَحُ مِنْهَا وِهْيَ فِي خُلْق جُهَّال

آخر:
وَالعِلمُ إِن لَم تَكتَنِفهُ شَمائِلٌ ** تُعليهِ كانَ مَطِيَّةَ الإِخفاقِ

لا تَحسَبَنَّ العِلمَ يَنفَعُ وَحدَهُ ** ما لَم يُتَوَّج رَبُّهُ بِخَلاق

ورُوِي عنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنهُ قَالَ: تعلَّمُوا العلمَ وَعَلِّمُوهُ ولا تَكُونُوا جَبَابِرةَ العُلماءِ فلا يَقُوم جَهْلُكُم بِعِلْمِكُم. وقَالَ في مِنْهَاجِ اليَقِين: وينبغي لِمَنْ اسْتَدَلَّ بِفِطْرَتِهِ على اسْتِحْسَانِ الفضائِلِ واستِقْبَاحِ الرذائِلِ أَنْ يَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ رَذائِلِ الجَهْلِ بفضائِلِ العِلْمِ ويَنْفِيْ غَفْلَةَ الإهْمَالِ باسْتِيْقَاظِ المُعَانَاةِ ويَرْغَب في العلم رَغْبَةَ مُتَحَقِّقِ لِفَضائِلِهِ واثقٍ بِمَنَافِعِهِ وَلا يُلْهيهِ عنْ طَلَبِِهِ كثرةُ مالٍ وُجِد ولا نفوذُ أمرٍ وَعُلُوُّ مَنْزِلَةٍ فإنَّ مَنْ نفذَ أَمرُهُ فَهُوَ إلى العِلْمِ أحوجُ ليكونَ أَمرُهُ وَنَهيهُ على البَراهينِ الشَّرْعِيةِ وَمَنْ عَلَتْ مَنزلَتُهُ فهو بالعلم أَحَقُّ لِيُعْرَفَ فَضْلَهُ ونهيهُ على البراهينِ الشرْعِيَّةِ.
لَو كانَ هَذا العِلمُ يَحصُلُ بِالمُنى ** ما كانَ يَبقى في البَرِيَّةِ جاهِلُ

فاجهِد وَلا تَكسَل وَلا تَكُ غافِلاً ** فَنَدامَةُ العُقبى لِمَن يَتكاسَلُ

يقولونَ ذِكرُ المَرءِ يبقى بنَسلِهِ ** وليسَ لهُ ذكرٌ إذا لم يكُنْ نَسْلُ

فقلتُ لُهمْ نَسلي بدائعُ حِكمَتي ** فَمنْ سَرَّهُ نَسلٌ فأنّا بِذا نَسلوا

آخر:
تَفَّننْ وَخُذْ منْ كُلِّ عِلْمٍ فإنَّما ** يفوقُ امرُوءٌ في كل فَنٍّ لهُ عِلْمُ

فَأنْتَ عَدُوٌ لِلذي أنْتَ جَاهلٌ ** بِهِ ولِعلْمٍ أَنْتَ تُتْقِنُهُ سِلْمُ

آخر:
العِلمُ زَينٌ وَتَشْرِيفٌ لِصَاحِبِهِ ** فاِطلُبْ هُدِيتَ فُنُونَ العِلمِْ وَالأَدَبا

كَمْ سَيِّدٍ بَطَلٍ آبَاؤُهُ نُجُبٌ ** كَانَا الرُؤوسَ فَأَمْسَى بَعدَهُم ذَنَبَا

وَمُقرِفٍ خامِلِ الآبَاءِ ذِي أَدَبٍ ** نَال المَعَاليَ بِالآدابِ وَالرُتبَا

الْعِلْم زَيْنٌ وَذُخْرٌ لا فَنَاءَ لَهُ ** نِعْمَ القَرينُ إِذَا مَا صَاحِبٌ صَحِبَا

قَدْ يَجْمَعُ الْمَالَ شَخْصٌ ثُمَّ يُحْرَمُهُ ** عَمَّا قَلِيلٍ فَيَلْقَى الذُّلِّ والْحَرَبَا

وَجَامعُ العلمِ مَغْبُوطٌ بِهِ أَبَدَا ** وَلا يُحاذرُ مِنْهُ الْفَوْتَ والسَّلَبَا

يا جامِع العِلمِ نعم الذخر تجمعه ** لا تعدلن بهِ درًا وَلا ذَهبا

آخر:
بَعْضُ الرِّجَالِ لَهُ رَأيٌ وَمَعْرِفةٌ ** يَدْرِي وَيَعْلَمُ أَنَّ الوَقْتَ مِنْ ذَهَبِ

وَهَمُّهُ في عُلُومِ الدَّينِ يُتْقِنُهَا ** وَهُمُ أَقْرَانِهِ في اللَّهْوِ وَاللَّعِب

آخر:
ولا تَطْلُبَنَّ الْعِلْمَ لِلْمَالِ وَالرِّيَا ** فَإنَّ مَلاكَ الأَمْرِ في حُسْنِ مَقْصَدِ

وَكُنْ عَامِلاً بَالْعِلْمِ فِيمَا اسْتَطَعْتُهُ ** ليُهْدَى بِكَ الْمَرءُ الذي بِكَ يَقْتَدِي

حَرِيصًا عَلى نَفَعِ الْوَرَى وَهُدَاهُمْ ** تَنَلَ كُلَّ خَيْرٍ فِي نَعيمٍ مُؤَبَّد

فَصْلٌ:
وقَالَ في منهاجِ اليَقينِ: واعلمْ أنَّ لكلِّ مَطْلُوبٍ باعِثًا والباعثُ على المطلوبِ شيئآنِ: رغبةً، أو رَهْبةٌ، فليكنْ طالبُ العلمِ رَاغِبًا رَاهِبًا أما الرَغبةُ ففي ثوابِ اللهِ تعالى لطالِبي مَرْضَاتِهِ وحافِظِي مُفْتَرَضاتِهِ بإقامَتِها وتعليمِها مَنْ لا يَعْلَمُها والأمْرُ بالمعروفِ، وأما الرَهْبَةُ فمِنْ عِقابِ اللهِ تعالى لِتاركِي أوامِرِهِ وَمُهْمِلي زواجِرِهِ فإذا اجْتَمَعَتْ الرغبةُ والرهبةُ أدَّتَا إلى كُنْهِ العلمِ وحقيقةِ الزُهدِ بإِذنِ اللهِ لأنَّ الرغبةُ في الثوابِ أقوَى الباعثَينِ على العلمِ والباعثُ الآخرُ حُبُّ النَّبَاهَةِ ونَحِوها والَرهبةُ منَ العِقابِ أَقوَى السَّبَبَيْنِ في الزُهْدِ وَقَدْ قَالَتِ الحُكماءُ: أَصْلُ العِلْمِ الرَغبةُ وَثَمَرَتُهُ السعادةُ وأَصْلُ الزُهْدِ الرَّهْبةُ وثَمَرَتُهُ العِبَادةُ، فإذا اقتَرَنَ العِلمُ والزُهدُ فقدْ تمَّتْ السعادةُ الدِّينِيةْ والدُنْيَوِيَّةُ وعمَّتْ الفَضِيلةُ. وقد رُوِيَ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنهُ قَالَ: «من ازْدادَ في العِلْمِ رُشدًا ولمْ يزدَدْ في الدنيا زُهْدًا لم يزدَدْ مِن اللهِ إلا بُعْدًا». وقَالَ مالكُ بنُ دينارٍ: مَنْ لم يُؤْتَ مِنَ العلمِ ما يَقْمَعُهُ فما أوتِي منهُ لا يَنفعُهُ. وقَالَ بعضُ الحُكماءِ: الفقيهُ بغيرِ وَرَع كالسِّراجِ يُضِيءُ البيتَ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ، وبالتالي فالعِلمُ فَضْلُهُ يَعْرِفُهُ كلُّ مُنْصِفٍ والناسُ يَحتاجُونَ إليهِ في كُلِّ وقتٍ قَالَ حَرْبٌ: سمعتُ أحمدَ بن حَنبلٍ يقولُ: الناسُ مُحتَاجُونَ إلى العِلْمِ قبلَ الخُبْزِ والماءُ، لأنَّ العِلْمَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الإِنْسِانُ في كُلِّ سَاعَةٍ، وَالخُبْزُ وَالمَاءُ في اليومِ مرةً أو مرَّتيْنِ.
وقَالَ شيخُ الإسلامِ ابن تيميةَ في قصيدةٍ له حلَّ بها لُغْزًا لَفْظةَ عِلم:
والعلمُ بالرحمنِ أَولُ صَاحِبٍ ** وَأَهمُّ فَرْضِ اللهِ في مَشْرُوعِهِ

وَأَخُو الدِّيَانَةِ طَالِبٌ لِمَزِيدِهِ ** أَبَدًا وَلمَّا يَنْهِهِ بِقُطُوعِهِ

والْمَرْءُ حَاجَتُهُ إِلَيْهِ أَشَدُّ مِنْ ** فَقْرِ الْغِذَاءِ لِعِلْمِ حُكْمِ صَنِيعِهِ

فِي كُلِّ وَقْتٍ والطَّعَامُ فإنَّما ** يَحْتَاجُهُ فِي وَقْتِ شِدَّةِ جُوعِهِ

وَهُو السَّبِيلُ إِلى الْمَحَاسِنَ كُلَّهَا ** والصَّالِحَاتُ فَسَوْأةً لِمُضِيعِه

آخر:
كَمْ مِنْ حَيَاءٍ وَكَمْ عَجْزٍ وَكَمْ نَدَمٍ ** جَمٍّ تَوَلَّدَ لِلإِنْسَانِ مِنْ كَسَلِ

إِيَّاكَ عَنْ كَسَلٍ فِي الْبَحْثِ عَنْ شُبُهٍ ** فما عَلِمْتُ وَمَا قَدْ شَذَّ عَنْكَ سَلِ

وَإِذَا أَرَدْتَ مِنْ الْعُلومِ أَجَلَّهَا ** نَفَعًا وَأَزْكَاهَا وَأَعْلَى الْمَطْلبَ

فَعُلُومُ تَوْحِيدِ الإِلهِ وَبَعْدَهُ ** فِقْهٌ بِدِينٍ فَهُوَ أَعْلَى الْمَكْسَب

آخر:
حَدِيث رِجَالِ العلم أَهْوَى وَأشْتَهِي ** كَمَا يشتهِى الماءَ المُبَرَّد شاربُهْ

وَأفْرَحُ أنْ ألْقَاهُمُوا فِي بُحُوثِهِمْ ** كَمَا يَفْرَحُ المرءُ الذي آبَ غَائبُهْ

آخر:
كُلَّ العُلوم سِوَى الْقُرْآن مشغلةٌ ** إلا الْحَدِيثَ وإلا الفقهَ في الدِّين

الْعِلْمُ مُتبعٌ مَا قِيلَ حَدَّثَنَا ** وَمَا سِوَى ذَاكَ وسْوَاسُ الشَّيَاطِين

واعْلم أنَّ الكَسَلُ مِن قِلَّةِ التأَمُّلِ في مَنَاقِبِ العِلْمِ وفَضَائِلِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتْعِبَ نفسُه على التَّحْصِيلِ والجدَ والمُواظَبَةِ بالتأملِ في فَضَائِل العِلم، فإن العِلمَ يَبْقَى ببقاءِ المعلومات، والمالَ يَفْنَى، كَمَا قَالَ أَمِيرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب كرم الله وجهه:
رَضِينَا قِسْمَةَ الْجَبَّارِ فِينَا ** لَنَا عِلْمٌ وَلِلجُهَّالِ مَالُ

فَإنَّ الْمَالَ يَفْنَى عَنْ قَرِيبٍ ** وَإنَّ الْعِلْمَ يَبْقَى لا يَزَالُ

آخر:
فَتَعَلَّمُوا فَالْعِلْمِ مُفْتَاحُ العُلا ** لَمْ يَبْقَ بَابًا لِلسَّعَادَةِ مُغْلَقًا

ثُمَّ اسْتَمِدُّوا مِنْهُ كُلَّ قُوَاكُمُ ** إنَّ القَوِيَّ بكُلِ أَرْضٍ يُتَّقَى

آخر:
احْرَصْ عَلَى كُلَّ عِلْمٍ تَبْلُغ الأمَلا ** وَلا تُوَاصِلُ لِعِلْمٍ وَاحِدٍ كَسَلا

فَالنَّحْلُ لَمَّا رَعَتْ مِنْ كُلَّ فَاكِهَةٍ ** أَبْدَتْ لَنَا الْجَوْهَرَيْنَ الشَّمْعَ والعَسَلا

الشَّمْعُ باللَّيْلِ نُورٌ يُسْتَظَاء بِهِ ** وَالشَّهْدُ يُبْرِي بإذِنْ البَارِئ الْعِلَلا

وَيُرْوَى عَنْ مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: تَعَلَّمُوا العِلْمَ فإنّ تعلُّمَهُ لِلّهِ خَشْيَةً وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ ومُدَارَسَتَهُ تَسْبِيحٌ والبَحْثَ عنهُ جِهَادٌ وَتَعْلِيَمهُ مَنْ لا يَعْلَمُ صَدَقَةٌ وَبَذْلَهُ لأهْلِهِ قُرْبَةٌ وَهُوَ الأَنيِسُ في الوَحْدةِ والصاحِبُ في الخَلْوَةِ والدّلِيل على الدِّين والمُصَبِّرُ على السرَّاءِ والضَّرَّاءِ والوَزِيرُ عِندَ الإخِلاء والقَرِيبُ عندَ الغُرَباءِ وَمَنارُ سَبيلِ الجَنّةِ يَرْفَعُ اللهُ بِهِ أقْوَامًا فيجعلُهُمْ في الخَيْرِ قَادةً سادةً هُدَاةً يُقْتَدَى بهم أَدِلِّةً لِلْخَيرِ تُقْتَفَى آثارُهمْ وَتُرْمَقُ أَفْعالُهُمْ وَتَرْغَبُ الملائكةُ في خُلَّتِهمْ وبأَجنِحَتِهَا تمْسَحُهُمْ وَكُلُّ رَطْبِ ويابسٍ لهُمْ يَستغْفرُ حَتَّى حِيتَانُ البَحْرِ وَهَوامُّهُ وَسِبَاع البَرِّ وَأَنْعامُهُ والسَّماءُ وَنُجُومُها، لأنَّ العِلْمَ حَيَاةُ القُلُوب مِنَ العَمَى وَنُورُ الأبْصَارِ مِنِ الظُلَمِ وَقوَّةُ الأبْدانِ مِنَ الضَّعْفِ يَبْلُغْ بِهِ العَبْدُ مَنَازلَ الأَبْرارِ والدَّرَجَاتِ العُلَى وَمُدَارَسَتُهُ بالقيام به يُطاع اللهُ عزَّ وجلَّ وَبِهِ يُعْبَدُ، وَبِهِ يُوَحَّدُ، وَبِهِ يُمَجَّدُ، وَبِهِ يُتَوَرَّعُ، وَبِهِ تُوصَلُ الأَرْحَامُ، وَبِهِ يُعرفُ الحَلالُ والحرامُ، وهو إمامٌ والعَمَلُ تابعُهُ يُلْهَمُهُ السُعداءُ وَيُحْرَمُهُ الأَشْقِياءُ.
ووردَ عنْ خالدِ بن عبدِ الرحمنِ بن أبي بَكْرَةَ عن أبيه عن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اغدُ عالمًِا أو متعلمًا أو مُسْتَمِعًا أو مُحِبًا ولا تكنْ الخامسة فَتَهْلِكَ».
وعن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الدُنيا مَلْعُونَةٌ مَلْعُوْنٌ ما فِيها إلا ذِكرُ اللهِ وما وَالاه أَوْ مُعَلِمٌ أَوْ مُتَعلّم».
وعن عطاءِ بن السائبِ عن الحَسنِ قَالَ: أُغْدُ عالِمًا أو متعلِّمًا أو مستمِعًا ولا تكُنْ رابعًا فَتَهْلِكَ.
وعن الحسن أنّ أبا الدرداءِ قَالَ: كُنْ عَالِمًا أَوْ مُتَعلِّمًا أو مُحِبًا أو مُتَّبِعًا ولا تكنْ الخامسَ فتهْلِكَ. قَالَ: قلتُ لِلْحَسَنِ وما الخامسُ؟ قَالَ: المُبْتَدِعُ.
كَفَى بالعِلم في الظُّلُماتَ نُورٌ ** يُبَيّنُ في الْحيَاةِ لَنَا الأُمُورَا

فَكَمْ نَالَ الذَّليلُ بِهِ اعْتِزَازًا ** وَكَمْ لَبِسَ الْحَزِينُ بِهِ سُرُورًا

تَزِيدُ بِهِ الْعَقُول هُدَىً وَرُشْدَا ** وَتَسْتَعْلى النُّفُوسُ بِهِ شُعُورَا

اللَّهُمَّ أَيْقِظْ قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمانْ وَثَبِّتْ فِيهَا مَحَبَّتَكِ ومَحَبَّةَ أَوْلِيائِكَ وعِبَادَكَ الصَّالِحِينَ وَارْزقْنَا المَعْرِفَةَ بِكَ على بَصِيرَة وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكَركَ وَاجْعَلْ آخِرَ كَلِمَةٍ نَتَكَلَّمُ بهَا كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ وَثَبِّتْنَا عَلى قَولِكَ الثَّابِتِ في الحَياةِ الدُّنيا وَفي الآخِرَة إِنَّك عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٍ وبالإِجابَةِ جَدِيرٌ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
عَلَى الْعِلْمِ نَبْلَيْ إِذَ قَدِ انْدَرَسَ الْعِلْمُ ** أَوْ لَمْ يَبْقَ فِينَا مِنْهُ رُوْحٌ وَلا جِسْمُ

وَلَكِنْ بَقِيَ رَسْمُ من الْعِلْمِ دَارِسُ ** وَعَمَّا قَلِيلٍ سوف يَنْطَمِسُ الرَّسْمُ

فَآنَ لَعَيْنٍ أَنْ تَسِيلَ دُموعُها ** وَآنَ لِقَلْبٍ أَنْ يُصَدِّعَهُ الْهَمُّ

فَإنَّ بِفَقْدِ العِلْمِ شَرًّا وَفَتْنَةً ** وَتَضْيِيعَ دِينٍ أَمْرُهُ وَاجبٌ حَتْمُ

وَمَا سَائِرُ الأَعْمَالِ إلا ضَلالَةٌ ** إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِينَ بِهَا عِلْمُ

وَمَا النَّاسُ دُونَ الْعِلْمِ إِلا بِظُلْمَةٍ ** مِنَ الْجَهْلِ لا مِصَباحَ فِيهَا وَلا نِجْمُ

فَهَلْ يُهْتَدَى إِلا بِنَجْمِ سَمَائِهِ ** إِذَا مَا بَدَا مِنْ أُفْقِهِ ذَلِكَ النَّجْمُ

فَهَذَا أَوَانُ القبْضِ لِلْعِلْمِ فَلَينُحْ ** عليه الذي في الْحُبِّ كَانَ لَهُ سَهْمُ

فَلَيْسَ بِمُبْقِي الْعِلْمِ كَثْرةُ كُتْبِهِ ** فَمَاذَا تَفِيدُ الْكُتْبُ إِنْ فَقَدَ الْفَهْمُ؟

وَمَا قَبْضُهُ إلا بِمَوْتِ وُعَاتِهِ ** فقبضُهُمُ قَبضٌ لَهُ وَبِهمْ يَنْمُو

فَجِدَّ وَأدِّ الْجَهْدَ فِيهِ فَإِنَّهُ ** لِصَاحِبِهِ فَخْرٌ وَذُخْرٌ بِهِ الْغُنْمُ

فَعَارٌ عَلَى الْمَرْءِ الذي تَمَّ عَقْلُهُ ** وَقَد أَمَّلَتْ فِيهِ الْمُرُوءةُ والْحَزْمُ

إِذَا قِيلَ مَاذَا أَوْجَبَ اللهُ يَا فَتَى؟ ** أجابَ بلا أدْرِي وأنَّى لِي الْعِلْمُ

وَأَقْبَحُ مِنْ ذَا لَوْ أَجَابَ سُؤالَه ** بِجَهْلٍ فإنّ الْجَهْلَ مَوْدِدٌ وَخْمُ

أَيَرْضَى بأنَّ الْجَهْلَ مِنْ بَعْضِ وَصْفِهِ ** وَلَوْ قِيلَ يَا ذَا الْجَهْلِ فارَقَهُ الْحِلْمُ

فَكَيْفَ إِذَا مَا البَحْثُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ ** جَرَى وَهُوَ بَيْنَ الْقِوْمِ لَيْسَ لَهُ سَهْمُ

تَدُورُ بِهمْ عَيْنَاهُ لَيْسَ بِنَاطِقٍ ** فَغَيْرَ حَرِيٍّ أَنْ يُرَى فَاضِلاً فَدْمُ

وَمَا الْعِلْمُ إِلا كَالْحَيَاةِ إِذَا سَرَتْ ** بِجْسِمٍ حَيَا وَالْمَيْتُ مَنْ فَاتَهُ الْعِلْمُ

وَكَمْ فِي كِتَابِ اللهِ مِنْ مِدْحةٍ لَهُ ** يَكَادُ بِهَا ذُو الْعِلْمِ فَوْقَ السُّهَى يَسْمُو

وَكَمْ خَبَرٍ في فَضْلِهِ صَحَّ مُسْنَدًا ** عَنْ الْمُصْطَفَى فَاسْأَلْ بِهِ مَنْ لَهُ عِلْمُ

كَفَى شَرَفًا لِلْعِلْمِ دَعْوَى الوَرَى لَهُ ** جَمِيعًا وَيَنْفِي الْجَهْلَ مِن قُبْحِهِ الفَدْمُ

فَلَسْتُ بِمُحْصٍ فَضْلَهُ إِنْ ذَكَرْتُهُ ** فَقَدْ كَلَّ عَنْ إحصائِهِ النَّثْرُ وَالنَّظْمُ

فَيَا رَافِعَ الدُّنْيَا عَلَى الْعِلْمِ غَفْلَةً ** حَكَمْتَ فَلَمْ تُنْصِفْ وَلَمْ يُصِبِ الْحُكْمُ

أَتَرْفَعُ دُنْيَا لا تُسَاوِي بَأسْرِهَا ** جَنَاحَ بَعُوضٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ يا فَدْمُ

وَتُؤثِرُ أَصْنَافَ الْحُطَامِ عَلَى الذِي ** بهِ العِزُّ في الدَّارَيْنِ وَالْمُلْكُ والْحُكْمُ

وَتَرغَبُ عَنْ إرْثِ النَّبِيينَ كُلِّهمْ ** وَتَرْغَبُ في مِيرَاثِ مَنْ شَأْنَهُ الظُّلْمُ

وَتَزْعُمُ جَهْلاً أَنَّ بَيْعَكَ رَابِحٌ ** فَهْيَهَاتَ لَمْ تَرْبَحْ ولَمْ يَصْدُقِ الزَّعْمُ

أَلَمْ تَعْتَبِرْ بالسَّابِقِينَ؟ فَحَالُهُمْ ** دَلِيلٌ عَلَى أَنْ الأَجَلَّ هُوَ الْعِلْمُ

فَكَمْ قَدْ مَضَى مِنْ مُتْرَفٍ مُتَكَبِّرٍ ** وَمِنْ مَلِكٍ دَانَتْ لَهُ الْعُرْبُ والْعَجْمُ

فَبَادَوا فلمْ تَسْمَعْ لَهُمْ قَطُّ ذَاكِرًا ** وَإِنْ ذَكَرُوا يَوْمًا فَذَكَرَهُمْ الذَّمُ

فَكُنْ طَالِبًا لِلْعِلْمِ حَقَّ طِلابِهِ ** مَدَى الْعُمْرُ لا يُوهِنُكَ عَنْ ذَلِكَ السَّأمُ

وَهَاجِرْ لَهُ فِي أَيَّ أَرْضٍ وَلَوْ نَأتْ ** عَلَيْكَ فَإعْمَالَ الْمَطِيِّ لَهُ حَتْمُ

وَأَنْفِقْ جَمِيعَ الْعُمْرِ فِيهِ فَمَنْ يَمُتْ ** لَهُ طَالِبًا نَالَ الشَّهَادَةَ لا هَظْمُ

فَإِنْ نَلْتَهُ فَلْيَهْنِكَ الْعِلْمُ إِنَّهُ ** هو الغَايةُ العُلْيَاءُ واللَّذَةُ الْجِسْمُ

فَلِلَّهِ كَمْ تَفْتَضُّ مِنْ بِكْرِ حِكْمَةٍ ** وَكَمْ دُرَّةٍ تَحْظَى بِهَا وَصْفَهَا اليُتْمُ

وَكَمْ كَاعِبٍ حَسْنَاءَ تكشِفُ خِدْرَهَا ** فَيُسْفِرُ عَنْ وَجْهٍ بهِ يَبْرأُ السُّقْمُ

فَتَلْكَ التِي تَهْوَى ظَفِرْتَ بِوَصْلِهَا ** لَقَدْ طَالَ مَا فِي حُبِّهَا نَحَلَ الْجِسْمُ

فَعَانِقْ وَقَبَّلْ وَارْتَشِفْ مِنْ رُضَابِهَا ** فَعَدْلُك عن وَصْلِ الْحَبِيبِ هُو الظُّلْمُ

فَجَالِسْ رُواةَ الْعِلْمِ واسْمَعْ كلامَهُمْ ** فَكَمْ كَلْمٍ مِنْهُمْ بِهِ يَبْرَأُ الكَلْمُ

وَإنْ أَمَرُوا فَاسْمَعْ لَهُمْ وَأَطِعْ فهُمْ ** أُولُوا الأَمْرِ لا مَنْ شَأْنُهُ الْفَتْكُ والظُّلْمُ

مَجَالِسُهُمْ مِثْلُ الرِّيَاضِ أَنِيقَةٌ ** لَقَدْ طَابَ مِنْهَا اللوْنُ وَالرِّيح وَالطَّعْمُ

أَتْعَتْاضُ عَنْ تِلْكَ الرِّيَاضِ وَطِيبهَا ** مَجَالِسَ دُنْيَا حَشْوُهَا الزُّورُ والإِثْمُ

فَمَا هِي إِلا كَالْمَزَابِلَ مَوْضِعًا ** لَكُلِّ أَذَىً لا يُسْتَطَاعُ له شَمُّ

فَدُرْ حَوْلَ قَالَ اللهُ قَالَ رَسولُهُ ** وَأَصْحَابُهُ أَيْضًا فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ

وَمَا الْعِلْمُ آراءُ الرِّجَالَ وَظنُّهُمْ ** أَلَمْ تَدْرِ أَنَّ الظَّنَّ مِنْ بَعْضِهِ الإِثْمُ

وَكُنْ تَابِعًا خَيْرَ القُرُونِ مُمَسِّكًا ** بآثَارِهِمْ فِي الدِّينِ هذا هُوَ الْحَزْمُ

وَصَلِّ إِلهَ الْعَالَمِينَ مُسَلِّمًا ** عَلَى مَنْ بِهِ للأنْبِيَاءِ جَرَى الْخَتْمُ

كَذَا الآلِ والأَصْحَابِ مَا قَالَ قائلٌ ** عَلَى الْعِلْمِ نَبْكِي إِذْ قَدِ انْدَرَسَ الْعِلْمُ

والله أعلُم، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.